هذه المقالة اقتباس مُعَدّل من كتابي القادم «الثقة في الحوسبة والسحابة» الصادر من دار النشر «وايلي»، وتبني على مقالة سابقة كتبتها بعنوان «الثقة واختيار المصدر المفتوح».
سألت السؤال التالي في تلك المقالة: ماذا نعنيه عندما نقول ”أثق في برمجيات المصدر المفتوح“؟ وأجبتُ على ذلك بأننا مؤمنون بأن عددًا كافيًا ممن كتب واختبر برمجية ما لديهم متطلبات شبيهة بمتطلباتي، وأن خبراتهم مجتمعة تطمئنني بما فيه الكفاية بأن لا خطر من استخدام تلك البرمجية. كما قدمت مفهوم «الثقة الموّزعة».
مفهوم توزيع الثقة في المجتمع هو تطبيق لنظرية أرسطو عن حكمة الجماعة التي تفترض بأن حكمة الجماعة أفضل من حكمة فرد أو عدة أفراد. على الرغم من سهولة نقد هذه الفكرة في أبسط تصور لها في بعض الظروف —خيرُ مثال على ذلك هو الدعم الشعبي العارم لأنظمة شمولية— إلا أن هذا المبدأ يوفر آلية فعالة تفيدنا في استنباط معلومات معينة.
يسمح استخلاص وتركيز الخبرات الجمعية بحصول ما أسميناه الثقة الموّزعة ويحصل ذلك عبر آلياتٍ مختلفة على الإنترنت. وظيفة بعضها مثل «تريب أدفايزر» و«غلاس دور» هو تجميع المعلومات حول المنظمات والخدمات المقدمة، بينما تسمح أخرى مثل «أربان سيتر» و«لينكد إن» إضافة المعلومات عن أشخاص معينين (خذ على سبيل المثال موقع «لينكد إن» والمزايا المعروضة في الحسابات الفردية مثل التوصيات والمهارات الوظيفية). المنافع المستخلصة من أمثلة كهذه تتزايد بشكلٍ مهول إثر أثر الشبكة؛ فارتفاع عدد الارتباطات المحتملة بين الأعضاء يتزايد طرديًا مع ارتفاع عدد الأعضاء.
لنأخذ أمثلة أخرى عن الثقة الموزعة مثل موقع تويتر، حيث يمكن اعتبار عدد المتابعين لأي حساب معيارًا للشهرة وحتى لمدى الثقة به، معيارٌ يستحق أعلى درجات الشك. وفعلًا تجاوب موقع تويتر مع الأثر على المجتمع التي تجنيه الحسابات المُتابَعة بكثرة بإضافة ميزة ”الحسابات الموثقة“ لمساعدة الناس على تمييز الحسابات ومعرفة أي من ”الحسابات التي تمس الرأي العام“ أصيلة. ما يثير الاهتمام هنا هو أن الشركة اضطرت لإيقاف الخدمة بعد حصول مشاكل مرتبطة بتوقعات المستخدمين بما يخص ”التوثيق“ وما تعنيه الكلمة ومضمونها. يقدم لنا هذا مثالًا كلاسيكيًا عن اختلاف مفاهيم السياق بين المجموعات المختلفة.
كيف يرتبط كل ما سبق مع المصدر المفتوح إذًا؟ الجانب المجتمعي من مبدأ المصدر المفتوح هو في الحقيقة دافع نحو إصلاح الثقة الموزعة. ذلك لأنه فور دخولك إلى مجتمع يمتحور حول مشروع مفتوح المصدر، أي أن تصبح واثقًا بذاك المشروع، فإنك تأخذ دورًا أو أكثر من عدة أدوار (أنظر مقالتي السابقة) كمختص في معمارية البرمجيات أو مصمم أو مطور أو مُراجع أو كاتب تقني أو فاحص لجودة البرمجيات أو ناشر لها أو مبلّغ عن الأخطاء البرمجية أو مصحح لها. وإذا ما ازدادت نسبة مشاركتِك في مشروع انغمرتَ أكثر في مجتمعه، والذي يتحول مع مرور الوقت إلى «مجتمع الممارسة».
قدّم «جين ليف» و«إتيان وينغر» مفهوم مجتمعات الممارسة في كتاب «التعلم المتموضع: المشاركة الطرفية المشروعة»، حيث تنمو المجموعات إلى مجتمعات بعد أن يشارك الأفراد فيها ذات الشغف ويمارسون أنشطة مشتركة، يؤدي ذلك إلى تحسين مهاراتهم ومعارفهم معًا. والمفهوم الرئيس في هذا الطرح هو أن المشاركين يتعلمون من موضعهم على أطراف مجتمع الممارسة وبالتالي يصبحون أنفسهم أعضاءً في ذلك المجتمع:
”المشاركة الطرفية المشروعة تشير إلى شيئين، إلى تطور هويات تمتاز بالمعرفة والمهارة في ممارستها، وإلى تكاثر وتحول مجتمعات الممارسة“.
تعمّق وينغر لاحقًا في مفهوم مجتمعات الممارسة، في تكونها ومقومات سلامتها وتشجيعها على التعليم في كتاب «مجتمعات الممارسة: التعلم، المعنى، والهوية». في هذا الكتاب عرّف مفهومًا مركزيًا في تلك المجتمعات وهو مفهوم «تفاوضية المعنى» (لماذا نعمل معًا؟ ما الذي نسعى لإنجازه؟) ولاحظَ أن متانة مجتمعات الممارسة لا تقوم دون المشاركة والخيال والتناسق بين الأعضاء.
يمكننا أن نوفّق بين ما ذكر وأوجه نظرنا حيال تأسيس وبناء الثقة الموزعة: عندما تدرك أن أثر مساهماتك في المصدر المفتوح مساوٍ لمساهمات الآخرين فإن علاقاتك المبنية على الثقة الموزعة مع باقي أعضاء المجتمع تصبح مباشرة أكثر (بدلاً من أن تكون بعيدة درجتين أو ثلاثًا أو أكثر). يمكنك أن تفهم كيف تتساوى آثار عملك على صناعة البرمجيات وصيانتها ومتطلباتها وجودتها، مع آثار الأخرين الذين كانوا في السابق مساهمين مجهولي الهوية لكنهم الآن شركاء في مجتمع الممارسة النامي أو أعضاء أصليون لمجتمع الممارسة الذي انضممت إليه. بهذه الطريقة تمسي جزءًا من شبكة علاقات الثقة الموزعة، وتصبح التجربة أقرب إليك شخصيًا من تجربة شراء برمجيات تشغيل محتكرة.
العملية لا تتوقف هنا، فإحدى الخواص المشتركة بين مشاريع المصدر المفتوح هي تنقُّل المصممين بينها كالنحل بين الزهور. يزداد هذا التنقل بين المشاريع كنتيجة لأثر الشبكة بين عدة مشاريع مفتوحة المصدر وهو أثرٌ يكثف من إعادة الاستخدام في المشاريع ومن اعتمادها على بعضها البعض، ويزيد من الاهتمام عبر فئة كاملة من المشاريع.
من السهل أن نفهم ظاهرة تحوّل المساهمين في المصدر المفتوح إلى دعاة لهذا المفهوم إذ لا يقتصر حبهم على المشروع بذاته فحسب. يقترح العالم الاجتماعي في جامعة ستانفورد، «مارك غرانوفيتر» أن كثرة الصلات القوية في المجتمعات تؤدي إلى الشللية والكساد، أما العلاقات الضعيفة فهي توفر حركةً للأفكار والتوجهات المشهورة حول المجتمعات. الوعي بوجود مشاريع أخرى ومجتمعات تتمحور حولها ومرونة انتقال الأفكار من مشروعٍ إلى آخر يؤدي إلى قابلية امتداد الثقة الموزعة —مع ضعف الإقرار بقوتها— إلى ما بعد العلاقات المباشرة أو العلاقات غير المباشرة المتقاربة التي يجربها المساهمون الذين يحملون خبرة مباشرة في تلك المشاريع، وصولاً إلى مشاريع أخرى تتطلب المراقبة الخارجية أو المشاركة الطرفية وتبيّن تلك المشاريع وجود علاقات مماثلة بين المساهمين فيها.
ببساطة، يمكننا أن نقول بأن الاشتراك في مشروع مفتوح المصدر وبناء علاقات مبنية على الثقة عبر الممارسة يؤدي إلى توزيع الثقة في مشاريع مفتوحة المصدر مماثلة أو إلى مشاريع أخرى متشابهة في طبيعتها مفتوحة المصدر.
ماذا يعني ذلك لنا؟ يعني أننا عندما نشارك في المصدر المفتوح سنتمكن من بناء ثقة أكبر فيه، وسينتج عن ذلك مشاركة أوسع وبالتالي ثقة أفضل في المصدر المفتوح. الثقة في المصدر المفتوح لا تأتي كنتيجة لأثر الشبكة فحسب، وإنما هي تغذية راجعة إيجابية!
―
تمت إعادة نشر هذا المقال من موقع opensource.com وفقاً لرخصة المشاع الإبداعي - Creative Commons، للإطلاع على المقال الأصلي