في حواره مع فيدروس حول الحب والخطابة يقصّ سقراط عليه قصة لقاء بين الإله الفرعوني «تحوت» وبين الملك «آمون» لينقل له مجموعة من العلوم والاختراعات مثل الرياضيات والكتابة. ناقش آمون تحوت بالحسنات والسيئات لاستخدام كُلٍّ منها ذامّاً شروح تحوت إن خابت ومادحًا إن صابت. بعد الإفاضة عن كل علمٍ وصلوا للكتابة، تحوت وصفها بجرعة الذكاء والذاكرة لأهل مصر. لم يقتنع آمون بذلك وردّ بأن المخترع لا ينفع لتقييم اختراعه بسبب ارتباطه به وأردف قائلاً أن الكتابة ستكون جرعة للنسيان فهي تجعل القرّاء يعتمدون على ما يكتبه الآخرون لا على الصادر من عقولهم. المعرفة من قراءة الكلمات بدلاً من الدراسة على أيدي المعلمين ستعطي القارئ مظهر ذكاء كاذب وحكمة سطحية تغطّي حقيقة جهلهم. مضيفًا بأن ذلك سيجعل رفقتهم صعبة.
يتّهمه فيدروس، بجدية أو بسخرية، باختراع القصة ويَردُّ سقراط بأن مصدر القصة ليس مهمًّا إن حملت في طياتها الحقيقة، ويتفق فيدروس، كعادة معظم محاوري سقراط، معه على تقييم آمون لاختراع الكتابة بأنها تفيد القراءة فقط على تذكير القارئ بما يعرف مسبقًا لكنها لا تُعَلّمه أو تعطيه الذكاء الحقيقي. نحن وبعد آلاف السنين من هاتين القصتين لنا الحرية على أن نتفق أو نختلف مع ذاك التقييم لكن المقالة هذه ليست عن سقراط وفيدروس والخطابة أو تحوت وآمون والكتابة لكنها بالتأكيد في صحبة هذه الأمور كما سيتضح بعد شيءٍ من السطور.
■ سقراط في حديثه مع فيدروس يناقش أفضلية الحكمة على تكنولوجيا الكتابة
مآل اللغة في وهج الشاشات
الفجوة بين الفصحى والعاميّة الواسعة أصلاً آخذةٌ بالاتساع مع التغيرات التكنولوجية والمعيشية والثقافية، لاحظتُ أن معظم المقالات والنقاشات المشيرة إلى هذه الفجوة وحالة ازدواجية اللغة تُركز على حلولٍ خارجة عن أيدي كُتّاب المقالات وقُرّائها، مثل ضرورة استخدام المناهج العربية في الجامعات. لا شك بأن التعليم يلعب دورًا مهمًّا في المسألة اللغوية لكن العبد الفقير القارئ لتلك المقالات لا يستطيع أن يفعل شيئًا إزاء تغيير جذري في منظومة التعليم العالي في دولته. ربما لا يكون القصد من المقالة دعوة للفعل بل فقط هزّ الرأس والتأسف على حالة لغتنا الرائعة. في بعض الأحيان يكون الهدف هو توبيخ العوام الجهّال بلغتهم وعدم الإحاطة بعلومها وعدم قدرتهم على الكتابة بها.
لكن استخدام كلمة العوام في يومنا هذا يتخلله خللٌ تصنيفي، مِن العوام مَن تخرّج من أرقى الجامعات حاملين الشهادات فيها أعلى العلامات في أذكى التخصصات. لا يجوز التشكيك بقدراتهم على الانضباط الدراسي أو على الذكاء الكافي لمعرفة قواعد الفصحى، كما أن المعاتبة على عدم تفرغهم لدراستها أيضاً لا ينفع فهو يطلب شرطًا إضافيًا وجهدًا فرديًا والتغيّرات الجمعية لا تأتي عبر طُرقٍ متفرقة.
لا شك أيضًا بأن القلم جُرَّ جانبًا وأخذت لوحات المفاتيح، أزراريّة كانت أو لمسية، مكانه في عملية الكتابة. الكتابة التي حذّر منها آمون لم تنتقص فقط من التعلّم بل انتقصت من حوائجنا للتواصل المباشر مع انتشار تطبيقات الدردشة ومواقع التواصل الاجتماعي. يقول كلُ منّا الكثير يوميًا دون أن يحرّك شفتيه. هذه الرزمة التكنولوجية من الهواتف المحمولة ومركزية الكتابة في التواصل لا بد من أن تقولب استخدام اللغة وتعدّله كما لم يحصل على مرّ التاريخ.
لذلك أعتقد أننا بحاجة للعناية بالجانب التكنولوجي كي نسهّل على أولئك الذين لم تتسنَّ لهم الفرصة ولم يتوفر لهم الفراغ لتعلّم قواعد الفصحى، وأن نساعد أولئك العاملين بالكتابة —سواء أكانوا من مؤلفي الكتب والروايات والمقالات أو من المترجمين والصحفيين والمحررين والمدققين وصولاً إلى أصغر الطلاب— على التدقيق الأسرع وبكفاءة أعلى كي لا يضيع وقتٌ لا تضيّعه الأمم الأخرى في تدقيق لغات لا تُستخدم في الحياة اليومية.
أثناء انتظار الحكومات الرشيدة بتعريب المناهج التعليمية كليًا يمكننا البدء على مشروعٍ في تقاطع اللغة والبرمجة، وهو تقاطعٌ عريضٌ كما يعلم أي مبرمج مهمته الأساسية إتقان لغات البرمجة. عند ذكر التعليم الجامعي يُكتفَى بالإشارة إلى المناهج ودور الأستاذ الجامعي في إعطاء المحاضرات، لكن الصرح الأكاديمي يقوم على ركنٍ آخر وهو ركن الأبحاث والدراسات. إذا أردنا أن نعرّب التعليم العالي على المجلات العلمية أن تكون بالعربية أيضًا. يعني ذلك أن الأساتذة في شتى التخصصات العلمية عليهم أن يتقنوا هذه القواعد. من المتوقع ألا تكون حالتهم هكذا بعد انشغالهم في الدراسة للحصول على الشهادات من دول غربية أو بعد عملهم في تدريس المناهج الإنغليزية وكتابة البحوث فيها لعقود من الزمن.
■ "لو وضعنا هذه البرامج في فئتها المناسبة من البرامج التعليمية وبحثنا عن رديفٍ لها في الثقافات الأخرى سنكتشف غرابة حاجة القوم لبرامج تُعلّم استخدام اللغة التي يدّعون أنهم يستخدمون"
الإملاء والإعراب على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها
يتعامل المتقنون للكتابة بالفصحى مع مشكلة صعوبتها على غيرهم بإحدى طريقتين. الأولى تشمل التعجرف وتصويب الأخطاء في المنشورات كأنها خطايا أخلاقية، طريقة تنفّر الناس من محاولة التعبير عن أنفسهم بالفصحى، مما يُجبرهم إلى التعبير بالعامية أو بالعربيزية أو بالإنكليزية. بعد تنفير الناس من استخدام الفصحى قد يُقال أن مهمة المتعجرفين نجحت في تثبيت «بريستيجهم الفصحوي» لكن الملاحظ أنهم لا يتوقفون عن الشكوى، تراهم يستهجنون كل الطرق الثانية ويلطمون على تراجع استخدام الفصحى.
الطريقة الثانية تتسم باللباقة وهي برامج تعليمية، قنوات يوتيوبيّة أو برامج تلفازية تُذكَّر فيها الأخطاء الشائعة والقواعد العامة وبالعادة تشمل النوادر والحكايا بعبرٍ عابرة لأزمنة غابرة. تصوّب هذه الطريقة لدى المشاهدين شيئًا من كتاباتهم وهي حتمًا أفضل من الأولى، حتى نبرة المقدمين تُشعرك بالترحاب وتحثّك على الحديث مثلهم. لكن للأسف هذه الطريقة لن ترقع الفجوة لأن البرامج تلك لا تُتَابع بما فيه الكفاية وحتى المتابع لها لا يلبث أن ينهي الڤيديو ويشاركه على صفحته حتى ينسى معظم ما سمع. الذنب ليس ذنب المقدّمين ولا المتابعين. نحن نتعامل مع حالة غريبة هنا، لو وضعنا هذه البرامج في فئتها المناسبة من البرامج التعليمية وبحثنا عن رديفٍ لها في الثقافات الأخرى سنكتشف غرابة حاجة القوم لبرامج تُعلّم استخدام اللغة التي يدّعون أنهم يستخدمون. كأننا مجموعة لا تتجاوز فكرياً برنامجاً مثل «افتح يا سمسم».
الحل الأنسب لا يتطلب جهدًا متواصلاً من مقدّمين وحتمًا يجب أن يشجع المرء على استخدام الفصحى لا على تنفيره منها. كما يفضل أن يرافق عملية الكتابة بدلاً من أن يكون تعليميًا يعتمد على جهودٍ فردية وتخصيص وقتٍ لذلك. وكي لا تكون هذه مقالة أخرى تكتفي بالشكوى من حالة الفصحى يفضل أن يكون الحل في متناول المهتمين المختصين دون أن يتطلب منهم سلطات أو تمويل هائل. الحل يمكن أن يساعد الأساتذة الجامعيين إن حاولت أي دولة عربية أن تحمل الشُعلة العُروبية في تعريب المناهج الجامعية.
نظرًا لما سلف أعتقد أن برمجية التصحيح التلقائي الإملائي هي المفتاح ولا بد للحل لمشكلتنا أن يكون في جوار تلك البرمجية: برمجية أخرى للتصحيح التلقائي النحوي/الإعرابي.
القواعد التي نريد برمجتها تبلورت في وقتٍ تعرضت فيه العربية الفصحى لخطرٍ مشابهٍ للخطر الذي تتعرض له اليوم. في تلك الأيام انتشر اللحن بسبب اتساع رقعة المتحدثين بها، اليوم تنتشر الأخطاء لاتساع رقعة الكاتبين بها.
المرحلة الأولية والمرحلة الصفرية
الأخطاء الإملائية يمكن تفاديها مع تحسّن برمجية التصحيح التلقائي الإملائي لذا لنتحدث قليلاً عن برمجية التصحيح التلقائي النحوي وتصوّرنا لها. من السهل أن نتصورها تعمل تمامًا مثل التصحيح الإملائي حيث نكتب الكلمة وتضع خطًا أحمر أسفل الأخطاء على برامج الكتابة الحاسوبية أو تعرض لنا الكلمات القريبة مما نَقصد على شاشات الهواتف النقّالة، لكن إعراب الكلمات يعتمد على موقعها في الجملة لذلك سيتطلب التصحيح التلقائي منطقًا مختلفًا يأخذ بعين الاعتبار الجملة بأكملها. أما عين الاعتبار الثانية فهي تنظر على الكلمة نفسها لأن الإعراب لا يكتفي بمعرفة الحالة، أي لا يكفي معرفة ما إن كانت الكلمة منصوبة دون معرفة اختلاف نصب الجموع عن المفردات مثلاً.
هناك قواعد أخرى مثل علاقة العدد والمعدود تعتمد على ترتيب الكلمات لذا لن تتمكن برمجية التصحيح التلقائي الإملائي من إدراكها ويمكن إدراج تصحيحها في قائمة مهمات برمجية التصحيح التلقائي النحوي. الأخطاء الممكنة لا تتوقف هنا فهي تحتمل كل كلمة نكتبها، التذكير والتأنيث في الضمائر المستخدمة مثال آخر تصح فيها الكلمة قائمة لوحدها لكنها قد تكون خاطئة لعلاقتها مع كلمة سابقة لها.
الصورة المثالية لبرمجيات التصحيح المتنوعة ستشمل كل الأخطاء المحتملة، تضع الهمزة في مجلسها المناسب وتتأكد من استخدام الضمير الجنسي المراعي لمشاعر الكلمات، لن تسمح بالنصب على كلمات مجرورة وستفرّق بين رفع المثنى والمفرد. هذه الصورة المثالية يجب أن تكون الهدف النهائي التي نصبو إليه.
قبل الوصول إلى تلك الصورة النهائية يجب العمل على مراحل بدائية متاحة للاستخدام أيضًا وربما تعتمد على التفاعلية كي يعوّض الكاتب في البداية عن النقص في البرمجية. بدلاً من العمل على مشروع كامل وثم نشره في صورته النهائية يمكن البدء بمحاولة تعليم البرمجية كالطفل، مثلاً بدلاً من أن تميّز البرمجية المثنى وتعلم أن المثنى يرفع بالألف يمكن أن تكتفي المرحلة الأولى ببرمجية تعرض حركة الإعراب.
لنأخذ مثالاً سريعًا، لو سها الكاتب وكتب ”التقى الكاتبيَن في المقهى“ ثم أراد تدقيق النص واستخدم برمجية الإعراب في مراحلها الأولية، تضع البرمجية حركة للرفع (لنفترض أنها و) دون التعديل على الكلمات لتصبح الجملة ”التقى الكاتبيَنو في المقهى“. يتمكن الكاتب من التأكد من صحة الحركة مباشرة على الكلمة دون الحاجة لإعرابها بنفسه. هذه المرحلة الصفرية من البرمجية تتطلب معرفة من الكاتب وستحتاج إلى شيء من التمرين. قد تكون هناك حاجة في المرحلة الصفرية لأن يُعلِم الكاتبُ البرمجية أن الجملة اسمية أو فعلية أو أن يجيب استفسارًا سريعًا تعرضها البرمجية عليه. من الطبيعي في هذه المرحلة أن نفترض من الكاتب الإلمام في القواعد واستخدام البرمجية فقط للتدقيق. بدلاً من تقديم برنامج تعليمي للكبار يمكننا أن نعلّم البرمجية في صغرها كي تساعدنا عندما نكبر وننسى.
أدرك أن مثالاً كهذا يبدو بسيطًا وقد يتبادر للذهن أن الكاتب لا يجوز أن يخطئ في جملة كهذه لكنها جملة جاءت هنا منفردة، الكتاب يحتوي آلاف الجمل ومن الخطأ المراهنة على تركيز الكاتب أو المدقق في التحقق منها. تمرّ الكتب قبل نشرها في الدول الغربية لمراحل تدقيق وتنسيق وتحرير للتأكد من جودة الناتج النهائي أما في بعض الدول العربية هناك عدم مبالاة من دور النشر لما تُصدِر. قد يقول أحدهم أن الكتابة في الأزمنة الأثرية لم تتطلب كل هذا التدقيق لكن كيف لنا أن نقارن مستوى النشر المعاصر بما كان يُنشر سابقًا عن طريق الكَتبة. كما أن تدنّي معدلات النشر في الدول العربية مقابل الغربية يعني أن هناك عدة مشاكل في آلية النشر، لا اختزلها في عملية التدقيق هذه لكن حتماً ستكون عملية النشر أسرع لو كانت الأدوات المتاحة للتدقيق متوفرة. الأهم من ذلك، يمكننا عن طريق ضبط التدقيق أن نضبط جودة المنتج الأخير —الكتاب أو المقالة أو البحث— حتى لو قلّ كَمُّه.
وبالحديث عن التكافل في الأدوار بين دار النشر والكاتب والمدقق، يمكننا أن نفكر في هذه المرحلة الصفرية بجمع المعلومات عن استخدامها، ومع التقارير التلقائية عن الأخطاء تتحسن البرمجية تدريجيًا كما سنتعلّم أكثر عن طبيعة الأخطاء. قد تكشف لنا هذه البرمجية بتتّبعها الأخطاء معلومات لا يمكن دراستها بصورة بشرية لأن عملية الكتابة والتدقيق تحصل وراء الكواليس. مثلاً يمكننا أن نكتشف ترتيب الأخطاء وفق شيوعها وهذا يعطينا مؤشرًا يفيد في العملية التعليمية.
انتقالاً من المرحلة الصفرية إلى المرحلة الأولية يمكن إضافة تلميحات نحوية: نحن نتحدث عن برمجية ما زالت لا تدرك طبيعة التغيير المطلوب في الكلمة ذاتها لكنها تستطيع أن تحصر الاحتمالات الممكنة بمعرفتها الحركة الإعرابية. عندما تدقق البرمجية في الجملة المذكورة يمكن أن تتيح اختيارًا للكاتب كي يقرأ القواعد المتعلقة بهذا التغيير، مثلاً تعرض نافذة تقول ”أعربتُ هذه الكلمة فاعل وحركة الرفع كذا وكذا وكذا“.
المراحل المتقدمة تتطلب تعاونًا أعمق بين اللغوي المختص بالعربية والمبرمج —وهو لغوي من نوع آخر— كي يُنظَر إلى القواعد من زوايا جديدة، كيف للبرمجية أن تميّز المثنى دون تلقينها معاجمٍ بأكملها هو أحد الأسئلة التي تتطلب مثل هذا التعاون. كيف يمكن للبرمجية أن تميّز بين المفرد والجمع وبين الجموع، بين المذكر والمؤنث. في نهاية المطاف يجب أن تُلقن فقط الاستثناءات مثل الأسماء الخمسة. بالطبع ستقترن هذه البرمجية مع برمجية التصحيح التلقائي الإملائي حتى نصل إلى برامج نصية سلسة تسهّل على الجميع استخدام اللغة الفصحى أثناء الكتابة. اللغة الفصحى بقواعدها الثابتة عبر القرون ستكون سهلة المِراس في مشروع كهذا.
كي تعم الفائدة وتتسارع المراحل في هذه البرمجية يفضل بل ربما من الضروري أن تكون البرمجة متاحة أمام الجميع، كل المبرمجين المتحدثين باللغة العربية قادرون على المساهمة في هذا المشروع بدلاً من حصره على مجموعة صغيرة أو انتظار تمويلٍ من جهةٍ رسمية أو شركة تحتكر البرمجية لأن كل ذلك يتعارض مع المبدأ الجوهري في هذا المشروع من عموم الفائدة والتكافل للوصول إلى أفضل نتيجة، ويمكن أن يُسمح للمختصين أو المهتمين باللغة من إبداء الآراء وإعطاء الاقتراحات لتحسين البرمجية.
ملاحظة جانبية: اقتراح البرمجية والاقتراحات التي تلتها من مراحل لا يرتبطان بالضرورة. طبيعة عمل البرمجية وترتيب الأولويات سيكون في يد المبرمجين والقائمين على مثل هذا المشروع. يمكن العمل على برمجياتٍ بصورٍ مختلفة. المهم أن نحاول إتباع الشرطين الأساسيين، أن تكون البرمجية مشروع جمعي وتدريجي حتى تعمّ الفائدة عدديًا وزمنيًا (أي أن يكون جمعيًا حتى تُتاح البرمجية لأكبر عددٍ من المستخدمين وأن يعمل عليها أكبر عددٍ من المبرمجين، وزمنيًا حتى تستخدم مباشرة بدلاً من انتظار صورة نهائية قد نكتشف أننا لا نستطيع الوصول إليها قريبًا). حتى لو اختلف المبرمجون وتنافست مجموعات مختلفة في إصدار برمجيات تتبع إجراءات مختلفة، يجب أن نتفق على محاربة أي محاولة لاحتكارها نظرًا لأهميتها.
■ "الصورة المثالية لبرمجيات التصحيح المتنوعة ستشمل كل الأخطاء المحتملة"
تحديات غير مسبوقة
الفجوة بين الفصحى والعامية ليست جديدة ولكن الظروف المتغيرة في القرن الماضي وخصوصًا في آخر عقدٍ تُعرّض هذه الازدواجية واللغة الفصحى لمخاطر غير مسبوقة. التغيرات الأساسية ليست سيئة بالضرورة لكن اجتماعها مع تقصير أولئك القائمين على اللغة يعني ضعف الفصحى وتآكلها بسرعة نستطيع قياسها بشكلٍ مباشر بين الجيل والجيل. التغيرات الأساسية الثلاثة هي محو الأمية وانتشار الكتابة والقراءة، وهيمنة الإنغليزية في العلوم والتكنولوجيا حاليًا بسبب العولمة وسابقًا بسبب الاستعمار المباشر في بعض الدول المتحدّثة بالعربية، وانتشار الهواتف والتطبيقات للتواصل النصّي. هذه التغيرات تعني أن عددًا أكبر من المتحدثين بالعربية أصبحوا يستخدمونها للكتابة ويقرؤون المصادر غير العربية في دراساتهم والمنشورات العاميّة في سائر يومهم. تعقيد الفصحى مع انتشار التخصصات العلمية والمدخلات الترفيهية غير العربية يؤدي إلى تراجعٍ في استخدامها واستخدام البدائل الأسهل من العامية واللغات الثانية. الخطأ الفادح الذي ارتكبه وما زال يرتكبه أولئك الشكّاؤون البكاؤون على الفصحى هو عدم استيعاب هذه التغيرات وطبيعة الحياة في المجتمع الصناعي والسنن الطبيعية الملازمة لتغيرات اللغة، بدلاً من دراسة ذلك اكتفوا بإتهام الناس بالتقصير لأنهم لا يكرسون وقتهم في التخصّص مثل أولئك المختصين. ثم حاولوا توريد الجهد بالمطالبات العقيمة المستجدية لحكومات لا تكترث بالعربية والجدالات السقيمة بين المفكرين حول تبسيط اللغة دون أخذ خطواتٍ واضحة. التحلية بعد هذا الطبق هو الهلع من العاميّة بدلاً من دراسة حالة الازدواجية بموضوعية والتنبّه لأن الأمم الثانية تأقلمت بترك ما يوازي الفصحى واستعملت اللغات اليومية. دراسة الازدواجية أيضاً ضرورية لنعرف ما آثارها على نفسية العربي وفِكره، هل هي مثلاً أحد أسباب العزوف عن القراءة وقلة المنشورات؟ هل لها تبعات فلسفية أو دينية؟ هذه الأسئلة والمزيد منها خارج نطاق هذه المقالة لكن لا يضرّ الإشارة إليها كي ندرك أهمية السؤال اللغوي.
لو كان أغلب العرب قادرين على الكتابة بالفصحى دون حاجة إلى شروط وجهدٍ إضافي لا شبيه له في الثقافات الثانية لما كانت هنا حاجة لهذه البرمجيات ولما اقترحت برمجية التصحيح التلقائي النحوي فأنا شخصيًا لست من عُشاق التكنولوجيا والحلول التكنولوجية. سأستعير من آمون تشبيه الكتابة بجرعة النسيان وأؤكد أن السبب الوحيد لاقتراح هذه البرمجيات هو من باب نفي النفي. أي أننا قد نسينا هذه القواعد وبتنا بحاجة لمثل هذه البرمجيات. لعل هذه البرمجية في مساهمتها إخراج نصوص أصحّ وتسهيل الكتابة على أعدادٍ أكبر ستساعد على إعادة الفصحى تدريجيًا إلى قوّتها ومكانتها الكتابيّة. ولعل جمع المعلومات المباشر من كل مستخدميها يكشف لنا بعض الخبايا في القواعد أو استخدام الفصحى.
القواعد التي نريد برمجتها تبلورت في وقتٍ تعرضت فيه العربية الفصحى لخطرٍ مشابهٍ للخطر الذي تتعرض له اليوم. في تلك الأيام انتشر اللحن بسبب اتساع رقعة المتحدثين بها، اليوم تنتشر الأخطاء لاتساع رقعة الكاتبين بها. في تلك الأيام تطلب الأمر حفنة من المختصين باللغة العربية، اليوم نحتاج إلى مختصين باللغة العربية ولغات البرمجة. الفارق بيننا هو أن تلك الأيام كانت بمستوى معرفي أقل بحكم أسبقية الزمن أما اليوم مع تعقيد حياتنا اليومية وانتشار التخصصات والتقلبات السريعة لا يمكننا المراهنة على بضعٍ من النحويين لخلاصنا أو جهود فردية مبعثرة سواء من تعلم العوام أو برامج تعليمية للكبار، علينا أن نفكر بحلول تناسب وقتنا، حلول تقوم على جهود جماعية ولا تنتظر منحة من خليفة لأنها اليوم على أغلب الظن لن تأتي. إن لم يكن المهتمون بالفصحى أهلاً لهذا التحدي عليهم أن يدركوا أن المستقبل ليس فصحى سيئة بل هجرًا كاملاً لها والاكتفاء بالعاميّة أو لغات ثانية أو خليطٍ بينهما كفيلٍ بالاستغناء عن الفصحى.