قبل بضع عقود، كانت المطبوعات كالصحف والكتب والمجلات هي السبيل الأكثر فاعلية لإبداء الآراء ونقد الطروحات ونشر الأفكار وتبني المواقف وغيرها من أشكال التعبير. ولعل إيصال الأفكار —بنّاءةً كانت أم هدامة— لعدد كبير من الناس لم يكن متاحًا بأي وسيلة أخرى. فاتجهت بعض الدول إلى تجنب فرض أي قيود قانونيةٍ على النشر لضمان حرية الصحافة واستقلالها وحماية حرية الرأي من أي تغول «قانوني». ومثال ذلك اختيار بريطانيا ألا تنظم الصحافة بالقانون، والاستعاضة عن ذلك بمدونات للسلوك وأخلاقيات العمل، والتي يُطلب من كل ناشر الالتزام الذاتي بها للحد من آثار النشر السلبية. بينما تحرص أنظمة أخرى على التحكم قدر الإمكان بالمطبوعات وما ينشر فيها من أفكار ”لحماية المجتمع“ أو إحكام السيطرة، وذلك عبر تنظيمها بتشريعات ملزمة تحدّد نطاقًا لحرّية النشر وتجعل مسؤولي النشر (كرئيس التحرير) عرضة للمساءلة القانونية، مما يؤدي للرقابة الذاتية والخارجية على المادة المنشورة. وفضلت الأردن هذا الاتجاه، إذ نظّمت الإعلام والنشر من خلال قانون المطبوعات والنشر الأردني، والذي طرأ عليه عدة تعديلات عبر السنين .

وإن افترضنا أن هدف هذا القانون هو تنظيم المحتوى وحماية المجتمع من الآثار السلبية للنشر وضمان مهنية واستقلال العمل الصحفي والنشر بالعموم، فإن هذا القانون قد يبدو ملائمًا لعصر ما قبل الانترنت بطريقة ما؛ فقد كان القانون حينها يمّكن الدولة من «حماية المواطن» من هذه الآثار السلبية. وأما إذا افترضنا أن هدف القانون هو الرقابة والحدّ من حرّية الرأي، فأن القانون كذلك كان يحقق أهدافه في ذلك العصر، كونه كان يسمح إلى حد ما بمنع وصول بعض الأفكار والآراء والأخبار لعامة الناس. ولكن الواقع الجديد الذي فرضه التحول الرقمي يغير قواعد اللعبة ويُفقد القانون مكانته إيجابيةً اعتبرناها أم سلبية.

شملت تعديلات المطبوعات والنشر عام ٢٠١٢ المواقع الالكترونية فيه، مستخدمة تعريفًا فضفاضًا جدًّا للمطبوعة الالكترونية، قد يشمل أي موقع ينشر الأفكار أو الأخبار أو المقالات أو التعليقات. وبذلك أٌلزمت هذه المواقع بالخضوع لذات الهيكل التنظيمي المفروض على الإعلام المطبوع. وتأمر التعديلات أيضًا بحجب كل مطبوعةٍ الكترونية مخالفة، كمحاولةٍ بائسة للسيطرة على الفضاء الإلكتروني الواسع. والأغرب من ذلك اعتبار المواقع مسؤولةً عن تعليقات المستخدمين على موادها وصحة هذه التعليقات وارتباطها بالمادة الأصلية، مما قاد الكثير منها لتجنب توفير هذه الخدمة أساسًا، والاعتماد على وسائل التواصل الأجنبية لرصد تعليقات المستخدمين، باعتبارها لا تخضع لسلطة هذا القانون ولا تخشى الحجب كالمواقع الأردنية.

لم يعد تنظيم الإعلام والنشر بهذه الطريقة مجديًا في هذه الأيام ولا تستطيع الدولة الأردنية التحكم بما يُنشر من جهة أو يُسمع من جهة أخرى.  فالأردنيون اليوم يعتمدون في الحصول على المعلومات على خليط من مصادر محلية وإقليمية وعالمية، وذلك عبر المواقع الإلكترونية لهذه الوكالات أو صفحاتها على وسائل التواصل الاجتماعي أو تطبيقات الأخبار. ولحسن الحظ، لا يسمح التصميم اللامركزي لشبكة الانترنت لأي جهة في العالم أن تتحكّم كليًا في هذه المصادر أو الوسائل، وأي جهد في هذا الاتجاه سيعيق المستخدمين فقط دون أن يمنعهم من الوصول إلى ما يريدون. وكغيره من الجهات، لا يملك القضاء الأردني فعليًا سلطة على معظم مصادر معلومات الأردنيين أو وسائلها. فما الجدوى من محاولة تنظيم النشر في الفضاء الإلكتروني بقانون عفا عليه الزمن كالمطبوعات والنشر؟ وما آثار ذلك؟

في زمن الانترنت، لا يوجد أي مبرر «للمطبوعات والنشر»، فهو غير قادر على أن يحمي المواطن أو يضمن مهنية الصحافة، ولا يصلح أيضاً حتى كأداة رقابة فاعلة على المنشورات! ويُضر القانون بشكل واضح في تنافسية ومصداقية المواقع الأردنية ومصادر المعلومات المحلية، واضعًا العقبات أمامها دون غيرها من نظرائها على الشبكة. وفيما كان الأردن مركزًا لتطوير وإدارة المواقع الإلكترونية خلال العقد الأول من هذا القرن، ساهمت تعديلات ٢٠١٢ بتراجع الأردن سنة بعد سنة وهجرة المواقع الالكترونية التي كانت تعمل فيه إلى دول أخرى. ولا شك أن خروج "ياهو" من الأردن يعزى – ولو جزئياً - لهذا التنظيم الجائر.

وإنه لمن المؤسف أن يحصل الأردنيون على أخبارهم من وكالات الأنباء والمواقع الأجنبية، ويرون بوضوح أن المواقع الأردنية مكبّلة على شبكة الإنترنت لأنها تعمل من الداخل. فما الفائدة من إجبار المواقع المحلية على عدم نشر مواد معينة، إذا كان الأردنيون سيصلون إليها من مواقع غير محلية؟ فحظر النائب العام للنشر في قضية المعلّمين مثلاً —اتفقنا معه أو اختلفنا— لم يمنع الأخبار عن الأردنيين، ولكنه أفقدنا الثقة بمصادر المعلومات المحلية. والخاسر الأكبر من هذا التنظيم هو وسائل الإعلام المحلية دون تحقيق أي فائدة مرجوة.

إن "المطبوعات والنشر" قانون قديم لا يتناسب مع زمننا، فالمطبوعات الورقية اليوم تعارك للبقاء وتسعى بشتى السبل للتحول الرقمي قبل نهايتها. وتدخل القانون بشبكة الإنترنت ليس له أي فائدة، بل يشوّه عمل المواقع الأردنية على الشبكة ويضعف تنافسيتها، ويضرّ بصورة الأردن وحرّية النشر فيه. ولذلك من الضروري أن ننأى عن أي قانون يحد من عمل المواقع الالكترونية الأردنية، وأن نأتي بحقبة جديدة تسمح للمواقع فيها بالعمل دون قيود كغيرها من من يعمل من خارج الأردن.