إشكالية المرأة في التكنولوجيا: بين غموض "الأرقام البحتة" وندرة الدراسات السوسيولوجية

في منتصف القرن التاسع عشر، غيرت شابة عشرينية تدعى آدا أوغستا لوفلايس مجرى التاريخ عندما كتبت ما بات يعرف اليوم على أنه أول برنامج كمبيوتر على الإطلاق، لتكون بذلك أول مبرمجة في تاريخ البشرية¹. ورغم أن "ساحرة الأرقام" لم تعش سنوات كثيرة في عالمنا إذ توفيت وهي في السادسة والثلاثين من العمر، بيد أن اسمها قد ظل شامخاً في أوساط المبرمجين حتى يومنا هذا، لدرجة أن عالم الحاسوب الفرنسي جان إشبيا قد أطلق لغة برمجة في العام 1980 حملت اسم "آدا"². ولم تكن آدا لوفلايس المرأة الوحيدة التي شكلت بإسهاماتها منعطفاً هاماً في تاريخ البرمجة، فقد أرست العديد من النساء حجر الأساس للتكنولوجيا المتقدمة التي يمتلكها العالم اليوم، خذ على سبيل المثال كاثلين بوث التي ابتكرت لغة "أسمبلي"³، وغريس هوبر التي ابتكرت لغة "كوبول"⁴، وماري ألين ويلكس التي عملت على برمجة نظام التشغيل الخاص بكمبيوتر "لينك" الذي عرف كأول حاسوب شخصي في العالم⁵، ومارجريت هاملتون التي ساهمت في كوددة البرمجيات التي استخدمتها وكالة الفضاء الأمريكية ناسا في رحلتها التي توجت بنزول الإنسان على سطح القمر لأول مرة في التاريخ⁶، وما هذا إلا غيض من فيض.  

إن المتمعن في الواقع المتعثر للنساء في التكنولوجيا  اليوم يكاد لا يصدق إسهامات النساء فيها، ولا أبالغ إذا قلت إن الأمر يبدو وكأننا نتحدث عن سيناريو يحدث في كون مواز، فنسبة النساء اليوم في قطاعات التكنولوجيا لا تتجاوز 20 إلى 22 بالمئة من العدد الكلي للعاملين في المجال بحسب الأرقام الصادرة عن المنتدى الاقتصادي العالمي، حتى إن هذه النسب آخذة بالتراجع بحسب التقارير والأرقام العالمية. ليس هذا وحسب، بل إن نسبة النساء المنخرطات في بعض هذه القطاعات أقل بكثير من النسبة المذكورة -على قلتها-.  

أما في الأردن، فعلى الرغم من أن أعداد خريجات علوم الحاسوب تقارب بل وتفوق أحياناً أعداد نظرائهن الذكور في هذه التخصصات بحسب الأرقام الصادرة عن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الأردنية⁷، إلا أن نسب النساء الأردنيات في قطاعات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لا تزال نسباً خجولة جداً، فبحسب الأرقام الصادرة عن جمعية شركات تقنية المعلومات الأردنية "إنتاج"، لا تتجاوز نسبة النساء الأردنيات العاملات في قطاعات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات 30 إلى 33 بالمئة من المجموع الكلي لموظفي القطاع⁸. 

وعلى الرغم من وفرة الدراسات والأرقام التي تشير إلى غياب النساء عن ساحة التكنولوجيا اليوم، بيد أن هذه الدراسات لم تنجح في الإجابة عن التساؤل الأكبر والأهم: أين حفيدات آدا لوفلايس؟  وما هي الأسباب السوسيولوجية الكامنة وراء عزوفهن عن الانخراط بشكل فاعل في صناعة التكنولوجيا (لا سيما مع كل تلك التحيزات التي باتت خوارزميات الكمبيوتر تظهرها ضدهن والتي كنا قد تطرقنا لها بإسهاب في مقال سابق)؟ وهنا لا بد من الإشارة إلى أهمية الدراسات والبحوث السوسيولوجية في هذا الصدد، والتي تتأتى أهميتها من كونها تعمل على تحديد وامتلاك الحقائق الاجتماعية ثم تفسيرها وتوظيفها في فهم مشكلات المجتمع وتحسين أوضاعه، أو بكلمات أخرى، في التكنولوجيا لن يتحقق إلا إذا عرفنا الأسباب الخفية التي تقف وراء غيابهن عنها وعزوفهن عن الانخراط فيها، إذ إن فهمنا للظواهر الاجتماعية مرهون بقدرتنا على ربطها بالعلاقات القائمة خلفها⁹، أو لنقل أن الأرقام البحتة في الدراسات التكنولوجية والاقتصادية وحدها ليست كافية للتعامل مع إشكالية اجتماعية بعظم الإشكالية التي نحن بصددها.

وهذا يحتم علينا، في ضوء ما تقدم، أن نعمل جاهدين على ردم الهوة العظيمة بين الباحثين في التخصصات الحاسوبية والباحثين في التخصصات الإنسانية، واضعين نصب أعيننا حقيقة أننا إذا ما أردنا تحقيق الازدهار المنشود في التكنولوجيا الأردنية والعربية على حد سواء، فإنه علينا بتحقيق تنمية شاملة تضمن للجميع -ولا سيما المستضعفين- حق الإبداع الذي بدوره لا يتحقق بصورة كاملة إلا بوجود التنوع في بيئات عمل هذا القطاع¹⁰. وإذ إنه لا يمكننا الحديث عن التنوع بمنأى عن الجندر، فمن الواجب علينا إذاً الأخذ بعين الاعتبار دراسة هذا القطاع من منظور سوسيولوجي لا من منظور تقني واقتصادي فحسب، أو كما يقول عالم الحاسوب ومهندس البرمجيات توم ديماركو بأننا إذا ما وجدنا أنفسنا نركز على التكنولوجيا وحدها دون السوسيولوجيا، فإننا لا نختلف عن شخصية الفودفيل التي تضيع مفاتيحها في شارع وتبحث عنه في الشارع الآخر.

 

---

الهوامش

 

⁹ شرابي، هشام. (1974). مقدمات لدراسة المجتمع العربي، لبنان: الدار المتحدة للنشر.

¹⁰ العتوم، ميسون. (2012). حفريات في ذاكرة النساء: دراسة في سوسيولوجيا المرأة الأردنية. الأردن: وزارة الثقافة.