تحكم العالم الافتراضي قوانين منظمة لحرية التعبير عن الرأي صُممت وطُورت قبل عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، دون أي مراعاة لطبيعة وخصوصية هذا العالم. فالمخالفات التي ترتكب على وسائل التواصل الاجتماعي تبقى منشورةً عادة، وبذلك لا تتقادم مع الزمن. فهل كل ما يُنشر بات يشكل بنكًا من أوراق الضغط التي يمكن صَرفُهَا ضد الأفراد وقت الحاجة؟ وهل يشكل القانون التقليدي تهديداً لحرية التعبير على الإنترنت؟

وُجد القانون لكي يُحترم ويُلتزم به، ووُجد الجزاء لزجر المخالف وردع السواد الأعظم عن الخروج عن القانون بهدف إرسائه وتثبيته في المجتمع. ولا يجوز للقانون أن يكون أداة سياسية أو وسيلة للتحكم بآراء الأفراد وتقييد حرياتهم. وجاءت التعديلات الدستورية بالمادة ١٢٨ التي تنص على أنه ”لا يجوز أن تؤثر القوانين التي تصدر بموجب هذا الدستور لتنظيم الحقوق والحريات على جوهر هذه الحقوق أو تمس أساسياتها“. ولكن هذا الطرح المثالي قلما يتجسد على الأرض في بلدنا الأردن.

ورغم أن الواقع العملي يمنع جهات إنفاذ القانون من محاسبة كل مخالف للقانون، ويفرض عليها التعامل مع الحالات التي تشكل ظواهر اجتماعية بحزم وسرعةٍ أكبر، إلا أن التذرع بمخالفة قانون ما لمعاقبة أشخاص معينين على أشياء أخرى وتصفية الحسابات السياسية باستخدام الجزاء القانوني لم تكن ولن تكون يومًا غاية الجزاء والحكمة المرجوة منه. فلا يصح أن نتذكر فجأةً أن بادي الرفايعة ”يطيل اللسان“ أو ”يحقر رئيس دولة صديقة“ بعد عدة شهور من ارتكابه هذه الجريمة. ولا يجوز أن يخطر في بالنا أن سمية أبو نبعة —عندما تزور الناشطين في السجن— كتبت خطابات ”بقصد إثارة النعرات المذهبية والعنصرية“ ونشرت في ما مضى غير ذلك من المنشورات التي تستوجب المحاسبة. فتلك الممارسات تطعن في هيبة القانون وتعزز فجوة الثقة بين المواطنين وجهات إنفاذ القانون. 

ولكن عندما يعبر أحدنا عن رأيه عبر منشور على الإنترنت، عادة يُحفظ ما ينشره على منصات التواصل الاجتماعي إلى أن يزيله أحد. فغالبية هذه المنصات لا تتطلب حذف المحتوى بعد نشره، وقلما يبادر أحدنا لذلك. وهكذا تصبح إمكانية الوصول إلى غالبية المحتوى الإلكتروني متاحة وفي أي وقت. وهذا يختلف بطبيعته عن السبل التقليدية للتعبير التي يصعب الرجوع إليها مثل الكلام الشفوي أو حتى المطبوع بصحيفة يومية! فتشكل المنشورات الإلكترونية جرائم مستمرة لا تنتهي طالما تُرِكت منشورة.

فإن التشريعات تطورت في العالم بشكل يوازن بين مصالح مختلفة، ويعزز من استقرار المجتمع على المدى الطويل. ونتيجة لذلك، ظهر مفهوم تقادم الجريمة الذي يحدد مدة معينة للملاحقة القانونية  بعد ارتكاب الجرم وتختلف هذه المدة باختلاف حجم الجريمة. فلا يمكن لي مثلًا أن أتذكر أن صديقًا لي أهانني قبل سنة، وأقرر ملاحقته قضائيًا ومطالبته بتعويضٍ ما بعد كل هذه المدة. وذلك ضروري لاستقرار المعاملات وراحة المجتمع. لا بد لنا أن نعتبر أن الماضي مضى، حتى بالمنازعات القضائية. ولكن ذلك —للأسف— لا ينطبق على المنشورات الإلكترونية، التي لا تتقادم ما دامت منشورةً.

وفي السنوات الأخيرة، شهد الأردن ارتفاعًا كبيرًا في قضايا الجرائم الإلكترونية، وأصبح هذا النوع من القضايا المدخل الأساسي لملاحقة النشطاء ومحاسبتهم وقمع حقهم في التعبير عن الرأي. ويبدو أن السلطات الأردنية باتت تستغل بعض المنشورات الإشكالية بشكل انتقائي بهدف معاقبة الناشر على أفعال أخرى لا تروق لصاحب القرار، ليمثل كل ما يُنشر بنكًا من أوراق الضغط التي يمكن صَرفُهَا ضد الأفراد في الوقت المناسب، حتى وإن لم يعد أحد يقرأ المنشور أو يصل إليه في الواقع. فقد تصبح المنشورات الإلكترونية وسيلة سياسية بامتياز وأداة لابتزاز النشطاء وكل من يعارض الخط الرسمي بسيف القانون دون وجود أي حماية.

إن الوعي بالحقوق الرقمية والمناداة بها لم يعد ترفًا، ويجب أن نعي أثر الإنترنت وخدماته والحقوق المرتبطة به على حياتنا. وإذا لم نأخذ قضية سمية اليوم على محمل الجد، سنسمح للمزيد من الانتهاكات أن تحدث غدًا وبوسائل لم نعرفها قبلًا ولم يقصدها —أو يسمح بها—- المشرع يومًا. وربما يأتي دورنا أنا وأنت قريبًا، فلا بد من أن أحد منشوراتنا عبر السنين يخالف مادة قانونيةً هنا أو هناك!